العودة للخلف

هل يشرع صلاة مستقلَّة لرفع الوباء

تاريخ النشر: 15 / 08 / 2025
: 19

(الوباء 7)

سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)

هل يشرع صلاة مستقلَّة لرفع الوباء

هل يشرع للمسلمين صلاة عند انتشار الوباء، أو هل يُشرع صلاة يصلونها مستقلة لرفع الوباء يدعون فيها برفع الوباء عنهم ونحو ذلك.

في هذه المسألة مذهبان:

الأول: مذهب بعض الحنفية، والمالكية : مشروعية ذلك.

من كلام بعض الحنفية.

قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر (332): «فإن قلت هل له صلاة؟

قلت : هو كالخسوف لما في منية المفتي قبيل الزكاة: في الخسوف والظلمة، في النهار واشتداد الريح والمطر والثلج والأفزاع وعموم المرض: يصلي وحدانا (انتهى). ولا شك أن الطاعون من قبيل عموم المرض فتُسنُّ له ركعتان فرادى. وذكر الزيلعي في خسوف القمر : أنه يتضرع كل واحد لنفسه، وكذا في الظلمة الهائلة بالنهار والريح الشديدة والزلازل والصواعق وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل والثلج والأمطار الدائمة وعموم الأمراض والخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من الأفزاع والأهوال؛ لأن كل ذلك من الآيات المخوفة (انتهى). فإن قلت: هل يشرع الاجتماع للدعاء برفعه كما يفعله الناس بالقاهرة بالجبل؟ قلت: هو كخسوف القمر، وقد قال في خزانة المفتين: والصلاة في خسوف القمر تؤدى فرادى وكذلك في الظُّلمة والريح والفزع، لا بأس بأنْ يصلُّوا فُرادى ويَدعُون ويتضـرعون إلى أن يزول ذلك (انتهى).

فظاهره : أنهم يجتمعون للدعاء والتضرُّع؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، وإن كانت الصَّلاة فرادى.

وفي المجتبى في خسوف القمر: وقيل الجماعة جائزة عندنا لكنها ليست سنة (انتهى) .

وفي السراج الوهاج: يصلِّي كل واحد لنفسه في خسوف القمر وكذا في غير الخسوف من الأفزاع؛ كالريح الشديدة والظلمة الهائلة من العدو والأمطار الدائمة والأفزاع الغالبة، وحكمها حكم خسوف القمر، كذا في الوجيز، وحاصله: أن العبد ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة عند كل حادثة. فقد كان النبي ﷺ إذا أحزنه أمر صلى (انتهى).

وذكر شيخ الإسلام العيني رحمه الله في شرح الهداية: الريح الشديدة والظلمة الهائلة بالنهار والثلج والأمطار الدائمة والصواعق والزلازل وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل وعموم الأمراض وغير ذلك من النوازل والأهوال والأفزاع إذا وقَعْن: صلَّوا وُحدَانًا ، وسألوا وتضرَّعوا، وكذا في الخوف الغالب من العدو (انتهى).

وقد صرَّح شارحو البخاري ومسلم والمتكلِّمون على الطاعون كابن حجر : بأن الوباء اسم لكل مرض عام ، وأنَّ كلَّ طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا (انتهى).

فتصريح أصحابنا بالمرض العام : بمنزلة تصريحهم بالوباء وقد علمتَ أنه يشمل الطاعون. وبه عُلم جواز الاجتماع للدُّعاء برفعه، لكن يصلون فرادَى ركعتين». انتهى كلام ابن نجيم .

وقد تعقَّبه الشارح أبو العباس الحموي في غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (4/ 134)، فقال : (قوله: قلت هو كالخسوف إلخ أقول: هذا قياس غير صحيح لعدم وجود شرائطه ، وعلى تسليم وجود الشرائط ، فباب القياس مسدود في زماننا ، إنما للعلماء النقل عن صاحب المذهب من الكتب المعتمدة ، على أنَّه نفسه صرَّح في بعض رسائله : بأن القياس بعد أربعمائة منقطع ، فليس لأحد أن يقيس مسألة على مسألة».

قال الحموي (4/136): (وقوله: وصرَّح ابن حجر بأن الاجتماع للدعاء برفعه بدعة ... إلخ)

أقول: ما قاله ابن حجر: هو الحق الذي لا مرية فيه، فإن تعريف البدعة صادق عليه».

قلتُ: ما قرَّره الشارح الحموي في مسألة الاجتماع للدُّعاء هو الصَّواب الذي لا مرية فيه. وعنى بقوله في مسألة الصَّلاة لرفع الوباء: (باب القياس مسدود): أي القياس في المذهب، وهو المعروف بتخريج الفروع على الفروع، بمعنى قياس مسألةٍ ما غير منصوص عليها  على مسألة منصوص عليها في المذهب، وهذا التخريج إنما يصلُح لأفراد ممن يعلم أصولَ المذهب وقواعده وفروعه في كل مذهب وليس كل لأحد.

وفي الدر مع حاشية ابن عابدين (2/ 183): «(وَالْفَزَعِ) الْغَالِبِ -أي يُصلَّى له - وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ المَخُوفَةِ كَالزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالثَّلْجِ وَالمَطَرِ الدَّائِمَيْنِ وَعُمُومِ الْأَمْرَاضِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِ الطَّاعُونِ» قال في الحاشية: (قَوْلُهُ: وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِ الطَّاعُونِ) أَيْ مِنْ عُمُومِ الْأَمْرَاضِ وَأَرَادَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ . قَالَ فِي النَّهْرِ: فَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا رَفْعَهُ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ مِنْ حَوَادِثِ الْفَتْوَى».

ومن كلام المالكية: ما في المختصر مع الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 308): (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لزَلْزَلْةٍ فَلَا تُكْرَهُ بَلْ تُطْلَبُ): قَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ) أَيْ لِلزَّلْزَلَةِ فَلَا تُكْرَهُ بَلْ تُطْلَبُ لِأَنَّهَا أَمْرٌ يُخَافُ مِنْهُ ، وَمِثْلُ الصَّلَاةِ لِلزَّلْزَلَةِ : الصَّلَاةُ لِدَفْعِ الْوَبَاءِ أَوْ الطَّاعُونِ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مِنْ أَجْلِ الزِّنَا ، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً لِغَيْرِهِمْ ، كَمَا أَفَادَهُ الْبَدْرُ ، وَيُصَلُّونَ لِذَلِكَ أَفْذَاذًا أَوْ جَمَاعَةً ، وَهَلْ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ؟ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ اللَّخْمِيِّ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَكْعَتَانِ . وَمَحَلُّ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ لِمَا ذُكِرَ : مَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْإِمَامُ ؛ وَإِلَّا : وَجَبَتْ».

وفي الشرح أيضًا مع الحاشية (1/314): «قَالَ عِيَاضٌ : ذَوَاتُ السَّبَبِ : الصَّلَاةُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِلسَّفَرِ وَعِنْدَ الْقُدُومِ مِنْهُ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَالِاسْتِخَارَةُ وَالْحَاجَةُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَعِنْدَ التَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ رَكْعَتَانِ اهـ وَيُزَادُ رَكْعَتَانِ عِنْدَ الطَّهَارَةِ وَعِنْدَ تَوَقُّعِ الْعُقُوبَةِ كَالزَّلْزَلَةِ وَالرِّيحِ وَالظُّلْمَةِ الشَّدِيدَيْنِ وَالْوَبَاءِ وَالْخُسُوفِ وَالصَّوَاعِقِ».

المذهب الثـانـــي: لا تشرع صلاة مستقلة لرفع الوباء، أو عند انتشار الوباء، لا جماعة، ولا فرادى. وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وهذا مقتضى مذهب أكثر العلماء.

قال ابن قدامة في المغني (2/318/ م 1473): «وقال مالك، والشافعي: لا يصلي لشيء من الآيات سوى الكسوف؛ لأن النبي ﷺ لم يصل لغيره، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، وكذلك خلفاؤه».

وعن أحمد: يُصلى للزلزلة من الآيات، وهو ظاهر المذهب.

قال ابن قدامة في الكافي (1/346): «ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ الله عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأنَّ النبيَّ ﷺ علَّل الكسوفَ بأنه آية يخوِّف اللهُ بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة».

وفي الروض المربع مع الحاشية (2/ 533): (أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل) وفاقًا لمالك والشافعي، وذلك كظلمة نهارًا، وضياءً ليلاً، وريح شديدة وصواعق وثلج ومطر دائمين (لعدم نقله عنه ، وعن أصحابه عليه السلام) فتركه مع وجوده في زمنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو السنة، كما أن ما فعله هو وأصحابه هو السنة. (مع أنه وجد في زمانهم انشقاق القمر، وهبوب الرياح والصواعق) كما هو مستفيض ولا ينكر وجود الآيات في عصرهم إلا مكابر وانشقاق القمر من أكبر الآيات التي دلت على رسالة محمد ﷺ ولم يصل لها». انتهى المراد.

قال في المقنع: (وَلَا يُصَلِّى لِشَىْءٍ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ، إِلَّا الزَّلْزَلَةَ الدَّائِمَةَ) .

قال المرداوي في الإنصاف: (5/ 405): «قوله: ولا يُصَلِّى لشئٍ مِن سائرِ الآياتِ. هذا المذهبُ، إلَّا ما اسْتَثْنَى، وعليه أكثرُ الأصحابِ، بل جماهيرُهم».

ثم قال المرداوي: «وعنه: يصَلِّى لكُلِّ آيَةٍ. وذكَر الشَّيْخُ تَقِىُّ الدِّينِ، أنَّ هذا قولُ مُحَقِّقِى أصحابِنا وغيرِهم، كما دلَّتْ عليه السُّنَنُ والآثارُ، ولولا أنَّ ذلك قد يكونُ سبَبًا لشَرٍّ وعَذابٍ؛ لم يصِحَّ التَخْوِيفُ به. قلتُ: واخْتارَه ابنُ أبِى مُوسى، والآمِدِىُّ. قال ابنُ رَزِين فى «شَرْحِه»: وهو أظْهَرُ. وقال فى «النَّصِيحَةِ»: يصَلُّون لكُلِّ آيَةٍ ما أحَبُّوا، رَكْعَتَيْن أو أكثرَ، كسائرِ الصَّلَواتِ، ويخطبُ!! وقال فى «الرِّعايَةِ»: وقيلَ: يُصَلِّى للرَّجْفَةِ، وفى الصَّاعِقَةِ، والرِّيحِ الشَّديدَةِ، وانْتِثارِ النُّجومِ، ورَمْى الكَواكِبِ، وظُلْمَةِ النَّهارِ، وضَوْءِ اللَّيْلِ، وَجْهان. انتهى.

وقال الشيرازي -من الشافعية - في المهذب : «ولا تُسنُّ صلاة الجماعة لآية غير الكسوف، كالزلازل وغيرها لأن هذه الآيات قد كانت ولم ينقل أن النبي ﷺ صلى لها جماعة غير الكسوف».

قال النووي في المجموع شرح المهذب (5/ 55): «قال الشافعي والأصحاب : ما سوى الكسوفين من الآيات كالزلازل والصواعق والظلمة والرياح الشديدة ونحوها لا تُصلَّى جماعة لما ذكره المصنف. قال الشافعي في الام والمختصر : لا آمر بصلاة جماعة في زلزلة ولا ظلمة ولا لصواعق ولا ريح ولا غير ذلك من الآيات . وآمر بالصلاة منفردين كما يصلون منفردين سائر الصلوات. هذا نصُّه. واتفق الأصحاب على أنه يُستحب أن يصلي منفردًا ويدعو ويتضرَّع لئلا يكون غافلًا». قلت: وفي قول ضعيف عندهم: يصليها كصلاة الكسوف!، والصحيح عندهم: أنه يصليها ركعتين كسائر الصلوات.

قلتُ: واستحباب صلاة مستقلة على الانفراد يفتقر إلى دليل أيضًا ، فما يقال في الجماعة يقال في المنفرد، والله أعلم.

قلتُ: لم أر من صرَّح بصلاة للوباء أو الطاعون من الشافعية والحنابلة الآن، وقد يُقال : إنَّ إطلاق مشـروعية وجواز الصَّلاة لكلِّ آية -عند من أطلق- : يشملُه. وفيه عندي بعد ونظر ، والله أعلم.

والصحيح أنه لا يشرع صلاة مستقلة عند انتشار الوباء ولا لرفعه، لأن مبنى العبادة على التوقيف، ولا نص يدل على استحباب ذلك، فليُقتصر على المشروع من كثرة الدعاء والاستغفار ونحو ذلك. والله أعلم.

 

كتبه: أبو محمَّد عبدالله بن لمح الخولاني

مكة المكرمة

2 شعبان عام 1441 هـ

جميع الحقوق محفوظة © موقع الشيخ ابي محمد عبدالله بن لمح الخولاني - 2025
تم نسخ الدعاء بنجاح